الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
- فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ... وذكر الحديث بطوله. قال المهلب: الرؤيا الصالحة الصادقة قد يراها الرجل المسلم والكافر والناس كلهم، إلا أن ذلك يقع لهم فى النادر والوقت دون الأوقات، وخص النبى عليه السلام بعموم صدق رؤياه كلها، ومنع الشيطان أن يتمثل فى صورته لئلا يتسور بالكذب على لسانه عليه السلام فى النوم، والرؤيا جزء من أجزاء الوحى، فإن قيل: فإن الشيطان قد تسور عليه فى اليقظة وألقى فى أمنيته عليه السلام. قيل: ذلك التسور لم يستتم؛ بل تلاقاه الله فى الوقت بالنسخ وأحكم آياته، وكانت فائدة تسوره إبقاء دليل البشرية عليه لئلا يغلو مغلون فيه، فيعبدونه من دون الله كما فعل بعيسى وعزير. فإن قيل: كيف يمنع الشيطان أن يتصور بصورة النبى فى المنام وأطلق له أن يتمثل ويدعى أنا البارى تعالى والصورة لاتجوز على البارى؟ قيل له: إنما منع أن يتصور فى صورة النبى الذى هو صورة فى الحقيقة دلالة للعلم وعلامة على صحة الرؤيا من ضغثها وأطلق له أن يتصور على ماليس بصورة على ماليس بصورة، ولايجوز عليه دلالة للعلم أيضًا وسببًا إليه؛ لأنه قد تقرر فى نفوس البشر أنه لايجوز التجسم على البارى- تعالى فجاز أن يجعل لنا هذا الوهم فى النوم دليل على علم ما لاسبيل إلى معرفته إلا من طريق التمثيل فى البارى- تعالى، مرة، وفى سائر الأرباب والسلاطين مرة. وكذلك قال أبو بكر بن الطيب الباقلانى: إن رؤية البارى فى النوم أوهام وخواطر فى القلب فى أمثال لاتليق به فى الحقيقة وتعالى سبحانه عنها دلالة للرائى على أمر كان أو يكون مسائر المرئيات. وهذا كلام حسن؛ لأنه لما كان خرق العادة دلالاً على صحة العلم فى اليقظة للأنبياء يهد بها الخلق، جعل خرق العادة الجارية على النبى يتصور الشيطان على مثاله بالمنع من ذلك دليلاً على صحة العلم. فإن قيل: كان يجب أن تكون الرؤيا إذا رأى فيها البارى صادقة أبدًا كما كانت الرؤيا التى رأى فيها النبى عليه السلام فالجواب أنه لما كان الله تعالى قد يعبر به فى النوم علس سائر السلاطين لأنه سلطان السلاطين ويعبر له على الاباء والسادة والمالكين، ووجدنا سائر السلاطين يجوز عليهم الصدق والكذب فأبقيت رؤياهم على العادة فيهم. ووجدنا النبيين لا يجوز الكذب على أحد منهم، ولا على شىء من حالهم فابقيت حال النبوة فى النوم على ماهى عليه فى اليقظة من الصدق برؤية النبى، وإذا قام الدليل عند العابر على الرؤيا التى يرى فيها البارى لايراد به غيره لم يجز فى تلك الرؤيا التى قام فيها دليل الحق على الله كذبًا أصلاً، لا في مقال ولا فى فعال، فتشابهت الرؤيا من حيث اتفقت فى معنى الصدق، واختلفت من حيث جاز غير ذلك، وهذا مالاذهاب عنه. وقوله: (فسكن لذلك جاشة) قال صاحب العين: الجأش: النفس.
وقوله تعالى: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} الآية - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ). قال المهلب: (الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح) إنما يريد عامة رؤيا الصالحين، وهى التى يرجى صدقها؛ لأنه قد يجوز على الصالحين الأضغاث فى رؤياهم؛ لكن لما كان الأغلب عليهم الخير والصدق وقلة تحكم الشيطان عليهم فى النوم أيضًا، لما جعل الله فيهم من الصلاح، وبقى سائر الناس غير الصالحين تحت تحكم الشيطان عليهم فى النوم؛ مثل تحكمه عليهم فى اليقظة فى ألب أمورهم، وإن كان قد يجوز منهم الصدق فى اليقظة فكذلك يجوز فى رؤياهم صدق أيضًا.
- فيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: (الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مِنَ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ). - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ عليه السَّلام يَقُولُ: (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّمَا هِى مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِى مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلا يَذْكُرْهَا لأحَدٍ فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ). فإن قال قائل: مامعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان) وقد تقرر أنه لا خالق والشر غير الله، وأن كل شىء بقدره وخلقه؟. قال المهلب: فالجواب أن النبى عليه السلام سمى ريا من خلص من الأضغاث وكان صادقا تأويله موافقًا لما فى اللح الحفوظ، فحسنت إضافته إلى الله، وسمى الريا الكاذبة التى هى من حيز الأضغاث حلمًا وأضافها إلى الشيطان؛ إذ كانت مخلوقة على شاكلة الشيطان وطبعه، وليعلم الناس مكائدة فلا يحزنزن لها ولايتعذبون بها، وإنما سميت ضغثًا لأن فيها اشياء متضادة. قال غيره: والدليل على أنه لايضاف إلى الله تعالى إلا الشىء الطيب الطاهر قوله تعالى: {إن عبادى ليس لك عليهم سلطان) فأضافهم إلى نفسه لأنهم أولياؤه ومعلوم أن غير أوليائه عباد الله أيضًا، وقال تعالى: {فإذا نفخت فيه من روحى)، (وطهر بيتى للطائفين) وقال تعالى: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت)، فأضافهم إلى ما هم أهله وإن كان الكل خلقه وعبيده (وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) قال المهلب: وإن كان المحزن من الأحلام مضافًا إلى الشيطان فى الأغلب وقد يكون المحزن فى النادر من الله تعالى لكن لحكمة بالغه، وهو أن ينذر بوقوع المحزن من الأحلام بالصبر لوقوع ذلك الشىء لئلا يقع على غرة فيقتل، فإذا وقع على مقدمة وتوطين نفس كان أقوى النفوس وأبعد لها من أذى البغثة، وقال (فإنها لا تضره) يعنى بها ماكان من قبل الشيطان جعل الله الاستعاذةمنها مما يدفع به أذاها، ألا ترى قول أبى قتادة: (إن كنت لأرى الرؤيا هى أثقل على من الجبل فلما سمعت بهذا الحديث كنت لاأعدها شيئًا). وروى قتادة، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام فى هذا الحديث: (فمن رأى منكم مايكره فليقم ويصلى).
- فيه: عُبَادَة، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ). ورواه أنس، وأبو هريرة، وأبو سعيد، عن النبى. ذكر الطبرى فى تهذيب الآثار أحاديث كثيرة مخالفة لحديث هذا الباب فى الأجزاء، منها حديث ابن عباس: (أن الرؤيا جزء من أربعين جزءًا من النبوة) وحديث عبد الله بن عمرو: (أنها جزء من تسعة وأربعين جزءًا من النبوة) وحديث العباس: (جزء من خمسين جزءًا من النبوة) وحديث ابن عمر وابن عباس وأبى هريرة: (جزء من سبعين جزءًا من النبوة). قال الطبرى: والصواب أن يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح، ولكل حديث منها مخرج معقول. فأما قوله: (من سبعين جزءًا من النبوة). فإن ذلك قول عام فى كل رؤيا صالحة صادقة لكل مسلم رآها فى منامه على أى أحواله كان. وهذا قول ابن مسعود وأبى هريرة والنخعى أن الرؤيا جزء من سبعين جزءًا من النبوة. وأما قوله أنها جزء من اربعين أو ستة وأربعين فإنه يريد بذلك ماكان صاحبها بالحال التى ذكر عن الصديق- رضى الله عنه- أنه يكون بها. روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه أن زياد بن نعيم حدثه أن أبا بكر الصديق كان يقول: لأن يرى الرجل المسلم يسبغ الوضوء رؤيا صالحة أحب إلى من كذا وكذا. قال الطبرى: فمن كان من أهل إسباغ الوضوء فى السبرات والصبر فى الله على المكروهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فرؤيا الصالحة إن شاء الله جزء من أربعين جزءًا من النبوة، ومن كانت حالة فى ذاته بين ذلك فروياه الصادقة بين الجزء من الأربعين إلى السبعين لاينتقص عن سبعين ولايزاد على الأربعين. قال المؤلف: أصح ما فى هذا الباب أحاديث الستة وأربعين جزءًا ويتلوها فى الصحة حديث السبعين جزءًا، ولم يذكر مسلم فى كتابه غير هذين الحدثين، فأما حديث السبعين جزءًا فرواه عن أبو بكر ابن أبى شيبة، عن أبى أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى عليه السلام ورواه ابن نمير ويحى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، ورواه الليث أيضًا عن نافع، عن ابن عمر وأما سائرها فهى من أحاديث الشيوخ. السبعين جزءًا وحديث الستة واربعين جزءًا، وهذا تعارض ولايجوز النسخ فى الأخبار؟ فالجواب: أنه يجب أن نعلم مامعنى كون الرؤيا جزءًا من أجزاء النبوة فلو كانت جزءًا من الف جزء منها لكان ذلك كثيرًا. فنقول وبالله التوفيق: إن لفظ النبوة مأخوذ من النبأ والإنباء، وهو الإعلام فى اللغة والمعنى أن الرؤيا إنباء صادق من الله، لاكذب فيه كما أن معنى النبوة الإنباء الصادق من الله الذى لايجوز عليه الكذب فتشاهبهت الؤيا النبوة فى صدق الخبر عن الغيب. فإن قيل: فما معى اختلاف الأجزاء فى ذلك فى القلة والكثرة؟ قيل: وجدنا الرؤيا تنقسم قسمين لا ثالث لهما، وهو أن يرى الرجل رؤيا جلية ظاهرة التأويل مثل من رأى أنه يعطى شيئًا فى المنام فيعطى مثله بعينه فى اليقظة، وهذا الضرب من الرؤيا لا إغراق فى تأويلها ولا رمز فى تعبيرها، والقسم الثانى مايراه من المنامات المرموزة البعيدة المرام فى التأويل وهذا الضرب يعسر تأويله إلا الحذاق بالتعبير لبعد ضرب المثل فيه، فيمكن أن يكون هذا القسم من السبعين جزءًا كانت الرؤيا أقرب إلى النبأ الصادق، وآمن من وقوع الغلط فى تأويلها، وإذا كثرت الأجزاء بعدت بمقدار ذلك وخفى تأويلها، والله أعلم بما أراد نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد عرضت هذا القول على جماعة من أصحابى ممن وثقت بدينة وفهمه فحسنوه وزادنى فيه بعضهم مرة، وقال لى: الدليل على صحته أن النبوة على مثل هذه الصفة تلقاها نبينا عليه السلام جبريل بالوحى فيكلمه بكلام فيعيه بغير مؤمنة ولا مشة، ومرة يلقى إليه جملا وجوامع يشتد عليه فكها وتبيينها، حتى تأخذه الرحضاء ويتحدر منه العرق مثل الجمان فى اليوم الشديد البرد، ثم يعينه الله على تبيين ماألقى إليه من الوحى، فلما كان تلقيه عليه السلام للنبوة المعصومة بهذه الصفة كان تلقى المؤمن من عند الملك الآتى بها من أم الكتاب بهذه الصفة، والله أعلم. وفيه: تأويل ذكره أبو سعيد السفسقى عن بعض أهل العلم قال معنى قوله: (جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة). فإن الله تعالى- أوحى إلى محمد عليه السلام فى الرؤيا ستة أشهر، ثم بعد ذلك أوحى إليه بإعلام باقى عمره، وكان عمره فى النبوة ثلاثة وعشرين عامًا فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار، عن ابن عباس، فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عامًا وجدنا ذلك من ستة وأربعين. وهذا التأويل يفسد من وجهين: أحدهما: أنه قد اختلف فى مدة النبى صلى الله عليه وسلم، فقيل: إنها كانت عشرين عامًا. رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة، والوجه الثانى: أنه يبقى حديث السبعين جزءًا بغير معنى.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلا الْمُبَشِّرَاتُ)، قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ). قال المؤلف: وذكر ابن أبى شيبة بإسناده عن أبى الدرداء: (أنه سأل النبى عليه السلام عن قوله تعالى: {لهم البشرى في الحياة الدنيا}. قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفى الآخرة الجنة). روى مثله عن ابن عباس وعروة ومجاهد. قال المهلب: وحديث أبى هريرة خرج لفظه على العموم، ومعناه الخصوص؛ وذلك أن المبشرات هى الرؤيا الصادقة من الله التى تسر رأئيها وقد تكون صادقة منذرة من الله تعالى لاتسر رأئيهايريها الله المؤمن رفقًا به ورحمة له؛ ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه فقوله: (لم يبق بعدى إلا المبشرات) خرج على الأغلب من حال الرؤيا، وقد قال محمد بن واسع: الرؤيا بشرى للمؤمن، ولا تغره. قال الطبري: فإن قال قائل: فإن كانت كل رؤيا حسنة وحى من الله وبشرى للمؤمنين، فما باله يرى الرؤيا الحسنة أحيانًا، ولايجد لها حقيقة فى اليقظة؟ فالجواب: أن الرؤيا مختلفة الأسباب فمنها من وسوسة وتخزين للمؤمن، ومنها من حديث النفس فى اليقظة فيراه فى نومه، ومنها ماهو وحى من الله، فما كان من حديث النفس ووسوسة الشيطان فإنه الذى يكذب، وماكان من قبل الله فإنه لا يكذب. وبنحو هذا ورد الخبر عن النبى عليه السلام وروى ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن أبيه، عن أيوب وهشام، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (الرؤيا ثلاث: رؤيا بشرى من الله، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه، ورؤيا تخزين من الشيطان).
وَقَوْلِهِ تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} الآية [يوسف: 4]، وَقَوْلِهِ: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاىَ مِنْ قَبْلُ (إلى) بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 100]. قال المؤلف: رؤيا يوسف حق ووحى من الله كرؤيا سائر الأنبياء، ألا ترى قول يوسف لأبيه يعقوب: (يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقًا). وقول بعقوب ليوسف: (لا تقصص رؤياك على إخواتك فيكيدوا لك كيدًا) قال له ذلك علم من تأويل الرؤيا فخاف أن يحسدوه، وكان تبين له الحسد منهم له، وهذا أصل أن لاتقص الرؤيا على غير شفيق ولاناصح، ولاتقص على من لا يحسن التأويل.
وقوله تعالى: {فلما بلغ معه السعى} الآيات وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (أَسْلَمَا (: سَلَّمَا لأُمِرَا اللَّه،) وَتَلَّهُ (وَضَعَ وَجْهَهُ بِالأرْضِ. قال المهلب: هذا دليل أن رؤيا الأنبياء وحى لايجوز فيها الضغث لأ، إبراهيم عليه السلام حكم بصدقها، ولم يشك أنها من عند الله فسهل عليه ذبح ابنه والتقرب به إلى الله، وكذلك فعل إسحاق حين أعلمه أبوه إبراهيم برؤياه، فسلم لحكم الله ورضى وانقاد له وفوض أمره إلى الله فقال: (يا أبت افعل ماتؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين) بهذه الآية استدل ابن عباس على أن رؤيا الأنبياء وحى.
- فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ أُنَاسًا أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ، وَأَنَّ أُنَاسًا أُرُوا أَنَّهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، فَقَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (الْتَمِسُوهَا فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ). قال المهلب: فيه الحكم على صحة الرؤيا بتوطئها وتكريرها، وهذا أصل فى ذلك يجب لنا أن نحكم به إذا ترادفت الريا وتواطأت بالصحة؛ كما حكم النبي عليه السلام .
لقوله تعالى: {ودخل معه السجن (إلى: (يعصرون ( - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ لَبِثْتُ فِى السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ، ثُمَّ أَتَانِى الدَّاعِى لأجَبْتُهُ). قال المهلب: إنما ترجم بهذا لجواز أن يكون فى ريا أهل الشرك رؤيا صادقة كما كانت رؤية الفتيين صادقة إلا أنه لايجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إلى النبوة فى التجزئة لقوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الحسنة يراها العبد الصالح أو ترى له جزء له ستة وأربعين جزءًا من النبوة). فدل هذا أنه ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا وله حقيقة يكون جزءًا من ستة واربعين جزءًا من النبوة، قال أبو الحسن بن أبى طالب: وفى صدق رؤيا الفتين حجة على من زعم أن الكافر لايرى رؤيا صادقة. فإن قيل: فإذا رأى الكافر رؤيا صادقة فما مزيه المؤمن عليه فى رؤياه، ومعنى خصوصه عليه السلام المؤمن بالرؤيا الصادق فى قوله: (يراها الرجل الصالح أو ترى له)؟. فالجواب: أن لمنام المؤمن مزية على منام الكافر فى إنباء والإعلام والفضل والإكرام، وذلك أن المؤمن يجوز أن يبشر على إحسانه وينبأ بقبول أعماله ويحذر من ذنب عمله ويردع من سوء قد أمله، ويجوز أن يبشر بنعيم الدنيا وينبأ ببؤسها، والكافر فإن جاز أن يحذر ويتوعد على كفره فليس عنده ما عند المؤمن من الأعمال الموجبة لثواب الآخرة وكل مابشر به الكافر من حالة وغبط به من أعماله، فذلك غرور من عدوه ولطف من مكائده فنقص لذلك حظه من الرؤيا الصادقة عن حظ المؤمن لأن النبى عليه السلام حين قال: (رؤيا المؤمن ورؤيا الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) لم يذكر فى ذلك كافرًا ولامبتدعًا فأخرجنا لذلك مايراه الكافر من هذه التقدير والتجزئة لما فى الأخبار من صريح الشرط لرؤيا المؤمن، وأدخلنا ما يراه الكافر من صالح الرؤيا فى خبره المطلق عليه السلام: (الرؤيا من منامات الكفار فهى من الله)، ولم نقل كذا وكذا من النبوة لاسيما أن الشعرى وابن الطيب يريان أن جميع مايرى فى المنام من حق أو باطل خلق لله فما كان منه صادقا خلقه بحضور الملك، وما كان باطلاً خلقه بحضور الشيطان، فيضاف بذلك إليه. فإن قال: يجوز أن نسمى مايراه الكافر صالحًا؟ قيل له: نعم وبشارة أيضًا كانت الرؤيا له أو لغيره من المؤمنين لقوله عليه السلام: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له). فاحتمل هذا الكلام أن يراها الكافر لغيره من المؤمنين وهو صالح للمؤمنين، كما أن يراه الكافر ممايدل على هدايته وإيمانه فهو صالح له فى عاقبته، وذلك حجة الله عليه وزجر له فى منامه، وقد خرج البخارى فى بعض طرق حديث عائشة (أول ما بدئ به رسول الله من الوحى الرؤيا الصالحة) أنها الصادقة؛ لأنها صالح مايرى فى المنام من الأضغاث، وأباطيل الأحلام، وكما أنبأ الله الكفار فى اليقظة بالرسل وبالمؤمنين من عباده دون المشركين من أعدائه قامت الحجة على المشركين بذلك إلى يوم الدين فكذلك يجوز إنباؤهم فى المنام بما يكون حجة عليهم أيضًا. قال المهلب: وقوله: (لو لثبت فى السجن ما لبث يوسف ثم أتانى الداعى لأجبته). هذا من تواضعه عليه السلام لئلا يغلى فى مدحه فقال عليه السلام: (لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح وقولوا عبد الله ورسوله) (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) لكن فى حكم الأدب إذا ذكر الأنبياء والرسل أن يتواضع. وفيه: الترفيع لشأن يوسف لأنه حين دعى للإطلاق من السجن قال: ارجع إلى ربك. ولم يرد الخروج منه إلا بعد أن تقر امرأة العزيز على نفسها أنها راودته عن نفسه فأقرت وصدقته، وقالت: أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين، فخرج حينئذ. قال ابن قتيبة: فوصفه بالأناة والصبر وأنه لم يخرج حين دعى، وقلا: لو كنت مكانه ثم دعيت إلى مادعى إليه من الخروج من السجن لأجبت ولم ألبث، وهذا من حسن تواضعه على السلام؛ لأنه لو كان مكان يوسف فبادر وخرج ولم يكن عليه نقص أو على يوسف عليه السلام لو خرج مع الرسول من السجن نقص ولاأثر، وإنما أراد أن يوسف لم يكن يستثقل محنة الله قيبادر ويتعجل؛ ولكنه كان صابرًا محتسبًا. وفى هذا الحديث زيادة ذكرها البخارى فى كتاب الأنبياء قال النبي عليه السلام: (نحن أحق بالشك من إبراهيم؛ إذ قال: رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن، ورحم الله لوطًا لقد كان ياوى إلى ركن شديد، ولو ثبت فى السجن...) الحديث قال ابن قتيبة: وقوله: (نحن أحق بالشك من إبراهيم). فإنه لما نزل عليه: (وإذا قال إبراهيم رب أرنى كيف تحيى الموتي) الآية. قال قوم سمعوا الآية: شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال رسول الله: (أنا أحق بالشك من إبراهيم). تواضعًا وتقديما لإبراهيم على نفسه يريد: إنا لم نشك ونحن دونه، فكيف يشك هو؟. ومثل هذا من تواضعه عليه السلام قوله: (لا تفضلونى على يونس ابن متى). فخص يونس وليس كغيره من أولى العزم من الرسل، فإذا كان لايحب أن يفضل على يونس، فغيره من الأنبياء بأن لايحب أن يفضل عليهم. وتأويل قول إبراهيم: (ولكن ليطمئن قلبى) أى بيقين البصر، واليقين جنسان: أحدهما يقين السمع، والآخر يقين البصر، ويقين البصر أعلاهما؛ ولذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة) حين ذكر قوم موسى وعكوفيهم على العجل قال: فأعلمه الله أن قومه عبدوا العجل فلم يلق الألواح؛ فلما عاينهم وعاكفين عليه غضب وألقى الألواح فتكسرت، وكذلك المؤمنون بالقيامة والبعث والجنة والنار متيقنون أن ذلك كله حق وهم فى القيامة عند النظر وعيان أعلى يقينًا، فأراد إبراهيم أن يطمئن قلبه بالنظر الذى هو أعلى اليقين. وقال غير ابن قتيبة: لم يشك إبراهيم عليه السلام أن الله يحيى الموتى وإنما قال: أرنى كيف، والجهل بالكيفية لايقدح فى اليقين بالقدرة إذ ليس من المؤمنين أحد يؤمن بالغيوب وبخلق السموات والأرض إلا وقد يجهل الكيفية، وذلك لايقدح فى إيمانه. فضرب الله تعالى مثلا لإبراهيم من نفسه فقال له: (خذ اربعة من الطير) الآية. فكما أحيى هذه الطير عن دعوتك، فكذلك أحيى أهل السموات والأرض عن نفخه الصور (وأعلم أن الله عزيز حكيم) عزيز فى صنائعه إذ صنائعه له عن مباشرة إلا عن قوله: كن، وماسواه من الصانعين فلا يتم له صنع إلا بمباشرة، وفى ذلك ذله ومفارقة للعزة، حكيم: أى فى أفعاله وإن كان بائنًا عنها، والصانع إذا بان من صنعته تختل أفعاله إذا كان بائنًا. قال ابن قتيبة: وقوله: (يرحم الله لوطًا إن كان ليأوى إلى ركن شديد) فإنه أراد قوله لقومه: (لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) وفى الوقت الذى ضاق فيه صدره واشتد جزعه بنا دهمه من قومه، وهو يأوى إلى الله تعالى اشد اركان، قالووا: فما بعث الله تعالى نبيًا بعد لوط إلا فى ثروة من قومه. قال غير ابن قتيبة: ولايخرج هذا لوطًا من صفات المتوكلين على الله الواثقين بتأيده ونصره، لكن لوطًا- عليه السلام أثار منه الغضب فى ذات الله مايثير من البشر، فكان ظاهر قول لوط كأنه خارج عن التوكل، وإن كان مقصده مقصد المتوكلين فنبه النبى على ظاهر قول لوط تنبيه على ظاهر قول إبراهيم، وإن كان مقصده غير الشك لأنهم كانوا صفوة الله المخصوصين بغاية الكرامة ونهاية القرية، لايقنع منهم إلا بظاهر مطابق للباطن بعيد عن الشبهة؛ إذ العتاب والحجة من الله على قدر مايصنع فيهم. وفى كتاب مسلم عن بعض رواه الحديث قال: إنما شك إبراهيم: هل يجيبه الله عز وجل أم لا؟.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَسَيَرَانِى فِى الْيَقَظَةِ، وَلا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِى). - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِى، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَخَيَّلُ بِى...) الحديث. هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن الغيب وأن الله تعالى منع الشيطان أن يتصور على صورته، وقد تقدم فى أول كتاب العبارة وقوله: (فسيرانى فى اليقظة) يعنى تصديق تلك الرؤيا فى اليقظة وصحتها وخروجها على الحق؛ لأنه عليه السلام ستراه يوم القيامة فى اليقظة جميع أمته من رآه فى النوم، ومن لم يره منهم.
رواه سمرة. - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ الْبَارِحَةَ؛ إِذْ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ حَتَّى وُضِعَتْ فِى يَدِي...) الحديث. - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: (أُرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ، قَدْ رَجَّلَهَا تَقْطُرُ مَاءً....) وذكر الحديث. ورواه ابن عباس أيضًا. وقوله: (عنبة طافية) يقال: طفا الشىء على الماء يطفوا، إذا علا، فعين الدجال طافية على وجهه قد برزت كالعنبة.
قَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: رُؤْيَا النَّهَارِ مِثْلُ رُؤْيَا اللَّيْلِ. - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا، فَأَطْعَمَتْهُ، وَجَعَلَتْ تَفْلِى رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ...) وذكر الحديث. قال المهلب: معنى هذهين البابين أنه لايخص نوم النهار على نوم الليل، ولانوم الليل على نوم النهار بشىء من صحة الرؤيا وكذبها، وأن الرؤيا متى اريت فحكمها واحد، وتأويل المفاتيح فى النوم أسباب الفتح، والمعنى أتيت مادلنى على أنه سيفتح لى ولأمتى خزائن الأرض مايرفع عنهم المسغبة والفقر ومايدين لهم ملوك الأرض؛ لأن خزائن الأرض بأيدى الملوك، وهو فى معنى قوله: (وزويت لى الأرض...) الحديث.
- فيه: أُمَّ الْعَلاءِ- امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِىّ عليه السلام- أَخْبَرَت أَنَّهُمُ اقْتَسَمُوا الْمُهَاجِرِينَ قُرْعَةً، قَالَتْ: فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِى أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِى تُوُفِّىَ فِيهِ.... وذكر الحديث. قالت: وأحزننى فنمت فرأيت لعثمان بن مظعون عينا تجرى فأخبرت رسول الله فقال: (ذلك عمله يجرى له). وترجم له باب العين الجارية فى المنام. رؤيا النساء كرؤيا الرجال، لافرق بينهما، والمرأة المؤمنة داخلة فى معنى قوله عليه السلام: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة). والعين فى المنام تختلف وجوهها؛ فإذا تعرت من دلائل الهم وكان مأؤها صافيا دلت على العمل الصالح كما فسر النبى، وقد تدل من العمل على مالاينقطع ثوابه كوقف أرض أو غله يجرى ثوابها دائمًا، و علم علمه الناس عمل به من علمه، فإن كان ماؤها غير صاف فهو غم وحزن، وقد تدل على العين الباكية وعلى الفتنة لقوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيونًا فالتقى الماء على أمر قد قدر) فكانت فتنة وجرت بهلاكهم ألا ترى قوله تعالى: {ماء غدقًا لنفتنهم فيه) وقد تدل على المال العين، ويستدل العابر على هذه الوجوه بأحوال الرائين وبزيادة الرؤيا ونقصانها.
- فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنِّى لأرَى الرِّى يَخْرُجُ مِنْ أَظْفَارِى، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ)، قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الْعِلْمَ). قال المهلب: رؤية اللبن فى النوم تدل على السنة والفطرة والعلم والقرآن؛ لأنه أول شىء ناله المولود من طعام الدنيا، وهو الذى يفتق معاه، وبه تقوم حياته كما تقوم بالعلم حياة القلوب، فهو يشاكل العلم من هذه الناحية. وقد يدل على الحياة؛ لأنها كانت به فى الصغر، وقد يدل على الثواب؛ لأنه من نعيم الجنة إذا رئى نهر من لبن، وقد يدل على المال الحلال، وإنما أوله عليه السلام فى عمر بالعلم والله أعلم؛ لعلمه بصحة فطرته ودينه، والعلم زيادة فى الفطرة على اصل معلوم.
- قَالَ أَبُو سَعِيد: قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَىَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ، وَمَرَّ عَلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ)، قَالُوا: مَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الدِّينَ). وترجم له: باب جر القميص فى المنام. قال المهلب: أصل عبارته عليه السلام للقميص بالعلم فى كتاب الله فى قوله تعالى: {وثيابك فطهر) يريد صلاح العمل وتطهير الأحوال التى كانت أهل الجاهلية تستبيحها، هذا قول ابن عباس، والعرب تقول: فلان نقى الثوب إذا كان صالحًا فى دينه. وفيه دليل على أن الرؤيا لاتخرج كلها على نص مارؤيت عليه، وإنما تخرج على ضرب الأمثال، فضرب المثل على الدين بالقميص، وعلى الإيمان والعلم باللبن من أجل اشتراك ذلك فى المعانى، وذلك أن القميص يستر العورات كما يستر الدين الأعمال التى كان الناس فى حال الكفر يأتونها، وفى حال الجهل يقترفونها. وقد تقدم أن اللبن حياة الأجسام كما بالعلم حياة القلوب، هذا وجه اشتباه المعانى فى هذه الأمثال التى لها ضربت؛ لأن المثل يقتضى المماثلة، فإذا كان مثل لا مماثلة فيه لم يصح التعبير به. فإن قيل: فإذا كان التعبير يقتضى المماثلة فما وجه كون جر القميص فى النوم حسنأط، وجره فى اليقظة منهى عنه وهو من الخيلاء؟ قال المهلب: فالجواب أن القميص فى الدنيا ستر وزينة كما سماه الله، وأنه فى الآخرة لباس لاتقوى. فلما كان فى الدنيا زينة حرم منها ماكان مخرجًا إلى الخيلاء والكبرياء الذى لايجمل بمخلوق مربوب ضعيف الخلقة سفيه الشهوة. فالكبر مع هذه الحال لا يجمل به ولا يصح له لا ضراره إلى مدبر يديره ورازق يرزقه، و دافع يدفع عنه ما لا امتناع له منه، ويحميه من الآفات، فوجب أن تكون تلك الزينة فى الدنيا مقرونة بدليل الذلة وعلامة العبودية، هذا معنى وجوب تقصيرها فى الدنيا. ولما خلصت فى الآخرة من أن يقترن بها كبر أو يخطر منه خارط على قلب بشر، حصلت لباس التقوى كما سماها الله فحسن فيها الكمال والجر لفضولها على الأرض، ودل ذلك الفضل المجرور على بقايا من العلم والدين يخلد ويكون أثرًا باقيًا خلفه، ولم يكن بسبيل إلى أن يكون فيه من معنى الكبر شىء فى ذلك الموطن، وليس هذا مما يحمل على أحوال الرائين، وإنما هو ابدًا محمول على جوهر الشىء المرئى، فجوهرالقميص فى الدنيا بقرينة الجر له كبر وتعاظم، وجوهرة فى الآخرة بالدين والعلم، وليس فى الآخرة فيه تحليل ولاتحريم، وإنما يحمل الشىء على حال الرائى له إذا تنوع جوهر الشىء المرئى به فيه أو عليه فى التفسير. وأكثر ما يكون ذلك فى الدنيا لاختلاف الشىء أحوال أهلها، وقد يكون فى الآخرة شىء من ذلك ليس هذا منه. ولايجوز أن ينقل جوهر شىء من الثياب أو غيرها عما وضعت له فى أصل العلم إلا بدليل ناقل لجوهر ذلك الشىء، كمن رأى أحدًا من الأموات فى نومه وعليه ثياب يجرها من نار أو متقدة بنار فيفسرها أنه كافر يلبس فى الدنيا ثياب الكبر والتبختر يجرها خيلاء فعوقب فى النار بصنعه ذلك فى الدنيا، أو يرى عليه ثيابًا من قطران كما قال الله تعالى فيها فحينئذ تكون الثياب فى الآخرة دليلاً على العذاب بما كان عليه فى الدنيا، ولايكون حيئذ لباس زينة ولا لباس تقوى. هذا مما يحمل فى الآخرة على أحوال صاحب الرؤيا.
- فيه: قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ، كُنْتُ فِى حَلْقَةٍ فِيهَا سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عُمَرَ، فَمَرَّ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ، فَقَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ قَالُوا: كَذَا وَكَذَا، قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا كَانَ يَنْبَغِى لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّمَا رَأَيْتُ كَأَنَّمَا عَمُودٌ وُضِعَ فِى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فَنُصِبَ فِيهَا، وَفِي رَأْسِهَا عُرْوَةٌ، وَفِى أَسْفَلِهَا مِنْصَفٌ، وَالْمِنْصَفُ الْوَصِيفُ، فَقِيلَ ارْقَهْ فَرَقِيتُهُ حَتَّى أَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَمُوتُ عَبْدُاللَّهِ، وَهُوَ آخِذٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى). وترجم له باب التعلق بالعروة والحلقة وقال فيه: (وقيل لى: أرقه فقلت: لا أستطيع، فأتانى وصيف فرفع ثيابى، فرقيت...) الحديث. قال المهلب: قال أبو الحسن على بن أبى طالب العابر: الروضة التى لايعرف بيتها دالة على الإسلام لنضرتها وحسن بهجتها، وقد تأولها بذلك الرسول عليه السلام و، وقد تدل من الإسلام على كل مكان فاضل يطاع الله فيه كقبر رسول الله، وحلق الذكر، وجوامع الخير، وقبور الصالحين لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة). وقوله: (ارتعوا فى رياض الجنة أو حفرة من حفر النار). وقد تئول الروضة على المصحف وعلى كتب العلم لقولهم: الكتب رياض الحكماء، والعمود دال على كل ما يعتمد عليه القرآن والسنن والفقه فى الدين، وعلى الفقيه والحاكم، والوالد والسيد، والزوج والزوجة والمال. وبمكان العمود وصفات المنام يستدل على تأويل الأمر وحقيقة التعبير. وكذلك العروة بالإسلام والتوحيد وهى العروة الوثقى قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لاانفصام لها). فأخبر الرسول أن ابن سلام يموت على الإيمان، ولما فى هذه الرؤيا من شواهد ذلك حكم له اصحاب النبى بالجنة لحكم النبى عليه السلام بموته على الإسلام. وفيه القطع لكل من مات على دين الإسلام والتوحيد لله بالجنة وإن نالت بعضهم عقوبات. وقول ابن سلام: ماكان ينبغى لهم أن يقولوا ماليس لهم به علم؛ إنما قاله على سبيل التواضع، وكره أن يشار غليه بالأصابع فيدخله العجب فيحبط عمله.
- فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (أُرِيتُكِ فِى الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ، إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِى سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَأَكْشِفُهَا، فَإِذَا هِى أَنْتِ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ). وترجم له باب: ثياب الحرير فى المنام. رؤية المرأة فى المنام تختلف على وجه فمنها أن تدل على امرأة تكون له فى اليقظة تشبه التى رأى فى المنام كما كانت رؤية النبى عليه السلام هذه، وقد تدل المرأة عيل الدنيا والمنزلة فيها والسعة فى الرزق، وهذا أصل عند المعبرين فى ذلك، وقد تدل المرأة أيضًا على فتنة بما يقترن إليها من دلائل ذلك. وقوله: (إن يكن هذا من عند الله يمضه هذه الرؤيا أريها النبى قبل زمن النبوة فى وقت تجوز عليه رؤيا سائر البشر فلما أوحى الله غليه حصن رؤياه من الأضغاث وحرسه فى النوم كما حرسه فى اليقظة وجعل رؤياه وحياه). ويحتمل وجهًا آخر: أن تكون هذه الرؤيا منه عليه السلام بعد النبوة وبعد علمه بأن رؤياه وحى فعبر عليه السلام عما علمه بلفظ يوهم الشك ظاهره ومعناه اليقين، وهذا موجود فى لغة العرب أن يكون اللفظ مخالفًا لمعناه كما قال ذو الرمة: أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آأنت أم أم سالم ولم يشك ذو الرمة أن الظبية ليست بأم سالم، وكما قال جرير: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح. فعبر عما هو قاطع عليه وعالم به بلفظ ظاهره الشك والمسالة عما لايقطع عليه فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن يكن هذا ابن أبى طالب) وثياب الحرير يدل اتخاذها للنساء فى الرؤيا على النكاح وعلى الأزواج وعلى العز والغنى وعلى الشحم ولبس الذهب، قال واللباس دال على جسم لابسه لأنه محله ومشتمل عليه ودافع عنه، فهو معبر عنه لاسيما أن اللباس فى غالب الناس دال على أقدارهم وأحوالهم ومذاهبهم وأجناسهم، فيعرف كل جنس بلبسه وزيه من العرب والعجم والأغنياء والفقراء، ولاخير فى ثياب الحرير للرجال وهى صالحة فى الجاه والسلطان وسعة المال.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ، فَوُضِعَتْ فِى يَدِى). قَالَ مُحمد: وَبَلَغَنِى أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الأمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِى كَانَتْ تُكْتَبُ فِى الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِى الأمْرِ الْوَاحِدِ وَالأمْرَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. قال أبو الحسن على بن أبى طالب: المفتاح يدل على السلطان وعلى المال والعلم والحكمة والصلاح، فإن كان مفتاح الجنة نال سلطانًا عظيما فى الدينأو علما كثيرًا من أعمال البر أو وجد كنزًا أو مالا حلالاً ميراثًا، وإن كان مفتاح الكعبة حجب سلطانًا أو أماما، ثم على نحو هذا فى سائر المفاتيح وجواهرها، وقال الكرمانى: قد يكون المفتاح إذا فتح به بابًا دعاء يستجاب له.
- فيه: ابْن عُمَر، رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ كَأَنَّ فِى يَدِى سَرَقَةً مِنْ حَرِيرٍ لا أَهْوِى بِهَا إِلَى مَكَانٍ فِى الْجَنَّةِ إِلا طَارَتْ بِى إِلَيْهِ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى النَّبِى صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (إِنَّ أَخَاكِ رَجُلٌ صَالِحٌ). قال المهلب: السرقة الكلة وهى كالهودج عند العرب وكون عمودها فى يد عمر دليل على الإسلام وطنبها الدين والعلم بالشريعة الذى به يرزق التمكن من الجنة حيث شاء، وقد يعبر هنا بالحرير عن شرف الدين والعلم؛ لأن الحرير أشرف ملابس الدنيا، فكذلك العلم بالدين اشرف العلوم، ودخول الجنة فى المنام يدل على دخولها فى اليقظة؛ لأن من بعض وجوه الرؤيا وجها يكون فى اليقظة كما يرى نصًا، وقد يكون دخول الجنة أيضًا دخول الإسلام الذى هو سبب الجنة، فمن دخله دخل الجنة كما قال تعالى: {فادخلنى فى عبادى وادخلى جنتي) وطيران الشرقة: قوة يرزقه الله على التمكن من الجنة حيث شاء كما فى الخبر عن جعفر بن أبى طالب أنه أكرمه الله بأن جعل قوة على الطيران فى الجنة، وفى خبر آخر: (إنما نسمه المؤمن طائر يعلق من شجر الجنة). وسألت المهلب فقلت: كيف ترجم البخارى باب عمود الفساط تحت وسادته ولم يذكر فى الحديث عمود فسطاط ولاوسادة؟ فقال لى: الذى يدل عليه الباب ويقه فى نفسى أنه رأى حديث السرقة أكمل مما ذكره فى كتابه، وفيه أن السرقة مضروبة فى الأرض على عمود كالخباء، وأن ابن عمر اقتلعها من عمودها فوضعها تحت وسادته وقام هو بالسرقة يمسكها، وهى كالهودجة من إستبرق فلا ينوى موضعًا من الجنة إلا طارت إليه، ولم يرض سنده بهذه الزيادة فلم يذكره وأدخله فى كتاب من طريق وثقة والله أعلم. وقد نقل فى كتابه مثل هذا كثيرًا فقال باب: إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق، ثم أدخل سمل النبى عليه السلام أعين العرنين ولم يذكر سمل العرنين أعين الرعاء، وإنما ترجم بذلك ليدل أن ذلك من فعلهم مروى، وكما فعل بقول سهل بن أبى حثمة فى الأوسق الموسقة فى باب العرايا فتركه للين سنده أولا ثم أعجلته المنية عن تهذيب كتابه.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ، وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَمَا كَانَ مِنَ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ لا يَكْذِبُ). قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَنَا أَقُولُ هَذِهِ الأمة، وَكَانَ يُقَالُ الرُّؤْيَا ثَلاثٌ: حَدِيثُ النَّفْسِ، وَتَخْوِيفُ الشَّيْطَانِ، وَبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلا يَقُصَّهُ على أَحَدٍ، وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، قَالَ: وَكَانَ يُكْرَهُ الْغُلُّ فِى النَّوْمِ، وَكَانَ يُعْجِبُهُمُ الْقَيْدُ، وَيُقَالُ الْقَيْدُ: ثَبَاتٌ فِى الدِّينِ. وَرَوَى قَتَادَةُ وَيُونُسُ وَهِشَامٌ وَأَبُو هِلالٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَدْرَجَهُ بَعْضُهُمْ كُلَّهُ فِى الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ عَوْفٍ أَبْيَنُ. وقال يُونُسُ: لا أَحْسِبُهُ إِلا عَنِ النَّبِى صلى الله عليه وسلم فِى الْقَيْدِ. قَالَ البخارى: لا تَكُونُ الأغْلالُ إِلا فِى الأعْنَاقِ. قال المهلب: روى عن النبى عليه السلام أنه قال: (القيد ثبات فى الدين)، ومن رواية قتادة ويونس وغيرهم، وتفسير ذلك أنه يمنع من الخطايا ويقيد عنها. قال غيره: وقد ينصرف القيد على وجوه أحدها: فمن رأى ذلك على رجله وهو فى سفر فإنه يقيم بذلك الموضع إلا أن يرى ذلك قدحل عنه، وكذلك من رأى قيدًا فى رجليه فى مسجد أو فى موضع ينسب إلى الخير فإنه دين ولزوم لطاعة ربه وعباده له، فإن رآه مريض أو مسجون أو مكروب فهو طول بقائه فيه، وكذلك إن رآه صاحب دنيا فهو طول بقائه فيها أيضًا. قال المهلب: والغل مكروه لأن الله تعالى أخبر فى كتابه أنه من صفات أهل النار فقال: (إذ الأغلال فى أعناقهم والسلاسل (فقد دل على الكفر، وقد يكون الغل امرأة سوء تشين صاحبها، وأما غل اليدين لغير العنق فهو كفهما عن الشر. وقوله عليه السلام: (إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن)، فمعناه- والله أعلم- إذا اقتربت الساعة وقبض أكثر العلم ودرست معالم الديانة بالهرج والفتنة، فكان الناس على فترة من الرسل يحتاجون إلى مذكر ومجدد لما درس من الدين كما كانت الأمم قبلنا تذكر بالنبوة، فلما كان نبينا محمد عليه السلام خاتم الرسل ومابعده من الزمان مايشبه الفترة عوضوا مما منع من النبوة بعده بالرؤيا الصادقة التى هى جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة الآتية بالتبشير والإنذار. وقد ذكر أبو سليمان الخطابى فى غريب الحديث عن أبى داود السجستانى أنه كان يقول فى تأويل قوله عليه السلام: (إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب). قال: تقارب الزمان هو استواء الليل والنهار قال والعبرون يزعمون أن أصدق الأزمان لوقوع التعبير وقت انبثاق الأنوار ووقت ينع الثمار وإدراكها وهما الوقتان اللذان يتقارب الزمان فيهما ويعتدل الليل والنهار. قال المؤلف: والتأويل الأول هو الصواب الذى أراده النبى عليه السلام لأنه قد روى مرفوعًا عنه روى معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام أنه قال: (فى آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا). قال المؤلف: وأما قول ابن سيرين: وأنا اقول هذه الأمة. فتأويله والله أعلم أنه لما كان عنده معنى قوله عليه السلام: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة). ويراد به رؤيا الرجل الصالح لقوله عليه السلام: (الرؤيا الحسنة يراها الرجل الصالح جزء من ستة واربعين جزءًا من النبوة). قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن) خشى ابن سيرين أن يتأول معناه أن عند تقارب الزمان لا تصدق إلا رؤيا الصالح المستكمل الإيمان خاصة، فقال: وأنا اقول هذه الأمة. يعنى تصدق رؤيا هذه الأمة كلها صالحها وفاجرها ليكون صدق رؤياهم زاجرة لهم وحجة عليهم؛ لدروس أعلام الدين وطموس آثاره بموت العلماء وظهور المنكر، والله أعلم.
رواه أبو هريرة عن النبى. - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَا أَنَا عَلَى بِئْرٍ أَنْزِعُ مِنْهَا؛ إِذْ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ الدَّلْوَ، فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِى نَزْعِهِ ضَعْفٌ، يَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ مِنْ يَدِ أَبِى بَكْرٍ، فَاسْتَحَالَتْ فِى يَدِهِ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِى فَرْيَهُ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ). وترجم له باب: زع الذنوب والذنوبين من البئر بضعف وقال ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم: (رأيت الناس اجتمعوا فقام أبو بكر فنزع ذنوبًا).. الحديث وعن أبى هريرة مثله. قال أبو سلمان: فسر أبو عبيد، وابن قتيبة طائفة من لفظ هذا الحديث ولم يتعرض أحد منهما لمعناه، وقد علمنا أن هذا مثل فى رؤيا النبى عليه السلام وإنما يراد بالمثل تقريب علم الشىء وإيضاحه بذكر نظيره، وفى إغفال بيانه والذهاب عن معناه وعن موضع التشبيه به إبطال فائدة المثل وإثبات الفضيلة لعمر على أبى بكر، إذ قد وصف بالقوة من حيث وصف أبو بكر بالضعف وتلك خطة أباها المسلمون، والمعنى- والله أعلم- أنه إنما أراد بهذا إثبات خلافتهما، والإخبار عن مدة ولايتهما، والإبانة عما جرى عليه أحوال أمته فى أيامهما، فشبه أمر المسلمين بالقليب وهو البئر العادية، وذلك لما يكون فيها من الماء الذى به حياة العباد وصلاح البلاد وشبه الوالى عليهم والقائم بأمورهم بالنازع الذى يستقى الماء ويقربه من الوارد، ونزع أبى بكر ذنوبًا أو ذنوبين على ضعف فيه إنما هو قصر مدة خلافته، والذنوبان مثل ما فى السنتين اللتين وليهما واشهر بعدهما، وانقضت أيامه فى قتال أهل الردة واستصلاح أهل الدعوة ولم يتفرغ لافتتاح الأمصار وجباية الأموال، فذلك ضعف نزعه، وأما عمر فطالت أيامه واتسعت ولايته، وفتح الله على يديه العراق والسواد وأرض مصر وكثيرًا من بلاد الشام، وقد غنم أموالها وقسمتها فى المسلمين فأخصبت رحالهم وحسنت بها أحوالهم فكان جودة نزعه مثلا لما نالوا من الخير فى زمانه والله أعلم. قال المؤلف: فذكر الطبرى مثل ماحكى الخطابى عن ابن عباس أنه قال: فتأول الناس معنى قوله: (حتى ضرب الناس بعطن) أبى بكر وعمر- رضى الله عنهما. قال الخطابى: والعرب تضرب المثل فى المفاخرة والمغالبة بالمساقاة والمساجلة فتقول فلان يساجل فلانًا أى: يقاومه ويغالبه، واصل ذلك أن يستقى ساقيان فيخرج كل واحد منهما فى سجله مايخرج الآخر فأيهما نكل غلب، قال العباس بن الفضل يذكر ذلك: من يساجلنى يساجل ماجدًا يملأ الدلو إلى عقد الكرب. وقوله: (بينا أنا على بئر أنزع منها). قال صاحب العين يقال: نزعت الشىء نزعًا: قلعته، وبئر نزوع إذا نزعت دلاؤها بالأيدى، وجمل نزوع ينزع عليه الماء. والذنوب: الدلو الملأى، ويكون النصيب أو الغرب أعظم من الدلو، عن صاحب العين. وقال أبو عبيد: قوله: (يفرى فريه) كقوله يعمل عمله، ويقول كقوله ونحو هذا، وأنشد الأحمر: قد أطعمتنى وقلا حوليا *** مسوسًا مدودًا حجريًا *** قد كنت تفرين به الفريا *** أى قد كنت تكثرين فيه القول وتعظمينه. ومنه قوله تعالى: {لقد جئت شيئًا فريا) أى مشينًا عظيمًا، وقال الأصمعى: سألت أبا عمرو بن العلاء عن العبقرى فقال: يقال هذا عبقرى قوم يعنون: سيد قوم وكبيرهم وقويهم. قال أبو عبيد: أصله فيما يقال أنه نسب إلى عبقر، وهى أرض يسكنها الجن فصارت مثلاً لك منسوب إلى شىء رفيه، ويقال فى عبقر الجن أرض تعمل فيها البرود؛ ولذلك نسب الوشى إليها؛ ومن هذا قيل للبسط عبقرية لأنها نسبت إلى تلك البلاد. قال ابن دريد: فإذا استحسنوا شيئًا وعجبوا من شدته ومضائه نسبوه إلى عبقر، وقالوا: ظلم عبقرى شديد فاحش وفى التنزيل: (عبقرى حسان) خوبطوا بما عرفوا. وقال ابن الأنبارى: أصل العطن الموضع الذى تبرك فيه الإبل قرب الماء إذا شربت لتعاد إاليها إن أرادت ذلك، يقال عطنت الإبل وأعطنها صاحبها.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ أَنِّى عَلَى حَوْضٍ أَسْقِى النَّاسَ، فَأَتَانِى أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ الدَّلْوَ مِنْ يَدِى؛ لِيُرِيحَنِى، فَنَزَعَ ذَنُوبَيْنِ، وَفِى نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، فَأَتَى ابْنُ الْخَطَّابِ، فَأَخَذَ مِنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَنْزِعُ حَتَّى تَوَلَّى النَّاسُ، وَالْحَوْضُ يَتَفَجَّرُ). قال المهلب: فيه دليل أن الدنيا للصالحين دار نصب وتعب وأن الراحة منها الموت على الصلاح والدين كما استراح النبى عليه السلام من تعب ذلك السقى بالموت. والحوض خاهنا: معدن العلم وهو القرآن الذى يغرف الناس كلهم منه دون أن ينتقص حتى يروا وهو معدن لايفنى ولاينتقص.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى فِى الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، قُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَبَكَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ قَالَ: أَعَلَيْكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغَارُ. - ورواه جَابِر، عن النَّبيىّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ فِيهِ: فَقُلْتُ: (لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ. وترجم له باب: الوضوء فى المنام. قال المهلب: هذه الرؤيا بشرى لعمر بن الخطاب بقصر فى الجنة وهذه الرؤيا مما تخرج على حسب مارؤيت بغير رمز ولا غموض تفسير، والجارية كذلك والوضوء إنما يؤخذ منه اسمه من الوضاءة، لأنه ليس فى الجنة وضوء لصلاة ولاعبادة، وفيه دليل على الحكم لكل رجل بما يعلم من خلقه ألاترى أن النبى عليه السلام لم يدخل القصر حين ذكر غيره عمر، وقد علم عليه السلام أنه لايغار عليه لأنه أبو المؤمنين، وكل مانال بنوه المؤمنين من خير الدنيا والآخرة فسببه وعلى يديه صلى الله عليه وسلم، لكن أراد أن يأتى ما يعلم أنه يوافق عمر أدبا منه. وقال ابن سيرين: من رأى أنه يدخل الجنة فإنه يدخلها إن شاء الله؛ لأن ذلك بشارة لما قدم من خير أو يقدمه. وقال الكرمانى: وأما بنيانها فهى نعيمها. وأما نساؤها فهى أجور فى أعمال البر على قدر جمالهن. قال على بن أبى طالب: وقد ينصرف دخول الجنة فى المنام على وجوه فيدل لمن يحج على تمام حجه، ووصوله إلى الكعبة المؤدية إلى الجنة، وإن كان كافرًا أو مذنبًا بطالا ورأى ذلك غيره له أسلم من كفره وتاب من بطالته، وإن كان مريضا مات من مرضه؛ لأن الجنة هى أجر المؤمنين إن كان المريض مؤمنًا، وإن كان كافرًا أفاق من علته لأن الدنيا جنة الكافرين، وإن كان عزبًا تزوج لأن الآخرة على السعى إلى الجمعة والجماعة، ودار العلم وحلق الذكر، والجهاد والرباط وكل مكان يؤدى إليها. وقال: ومن رأى أنه يتوضًا فى المنام فإنه وسيلة السلطان أو إلى عمل من الأعمال فمن تم له فى النوم تم له مايؤمله فى اليقظة، وإن تعذر عليه إن عجز الماء أو توضأ بما لايجوز له الصلاة به لم يتم له ما يحاوله، والوضوء للخائف فى اليقظة أمان له لما جاء فى فضل الوضوء، وربما دل الوضوء على الثواب وتكفير الخطايا لما جاء أنها تخرج من آخر قطر الماء، وربما دل الوضوء على الصوم؛ لأن الصائم ممتنع من كثير من لذاته والمتوضىء يدانيه فى ذلك، والوضوء والصوم واللجام ورباط اليد والقيد شركان فى التأويل ويتعاقبون فى التعبير، وقد تقدم حديث أبى هريرة فى كتاب النكاح فى باب الغيرة.
- فيه: ابْن عُمَر، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ مَرْيَمَ، فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ). قال بعض التأويل: الطواف بالبيت ينصرف عى وجوه، فمن رأى أنه يطوب بالبيت فإنه يحج إن شاء الله، وقد يكون تأويل ذلك إن كان يطلب حاجة من الإمام بشارة نيلها منه؛ لأن الكعبة إمام الخلق كلهم، وقد يكون الطواف تطهيرًا من الذنوب لقوله تعالى: {وطهر بيتى للطائفين)، وقد يكون الطواف لمن يريد أن يسترى أو يتزوج امرأة حسناء دليلا على تمام إرادته، وقال على بن أبى طالب العابر: وقد يكون الطواف لمن كان ذا والدين والدين أن يحسن برهما وزوجة يسعى عليها أو كان يخدم عالمًا أو كان عبدًا ينصح سيدة بشارة بالثواب عن فعله في اليقظة. وقال المهلب: ووصف عليه السلام عيسى بن مرين ووصف الدجال بصفاتها التى خلقهما الله عليها؛ لكونها فى زمن واحد، ولأن الحديث قد جاء عنه عليه السلام أن عيسى يقتل الدجال، فوصف الدجال بصفة لا تشكل عليهم على حسب مارأه، وهى العور، والذي لايجوز على ذوي العقول أن يصفوا بالإلهية والقدرة من كان بتلك الصفة؛ إذ الإله لاتجوز عليه الآفات وهذا مدعيها وقد جازت عليه الآفة، فهى برهان على تكذيبه، وقوله: (ينطف رأسه ماء) فالمنطف: الصب، وليلة نطوف: ماطرة، من كتاب العين.
- فيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: إِنَّ رِجَالا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَرَوْنَ الرُّؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام فَيَقُصُّونَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام مَا شَاءَ اللَّهُ، وَأَنَا غُلامٌ حَدِيثُ السِّنِّ، وَبَيْتِى الْمَسْجِدُ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَ، فَقُلْتُ فِى نَفْسِى لَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ؛ لَرَأَيْتَ مِثْلَ مَا يَرَى هَؤُلاءِ، فَلَمَّا اضْطَجَعْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ فِى خَيْرًا، فَأَرِنِى رُؤْيَا، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ؛ إِذْ جَاءَنِى مَلَكَانِ فِى يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، يُقْبِلانِ بِى إِلَى جَهَنَّمَ، وَأَنَا بَيْنَهُمَا أَدْعُو اللَّهَ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهَنَّمَ، ثُمَّ أُرَانِى لَقِيَنِى مَلَكٌ فِى يَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ: لَنْ تُرَاعَ، نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ، لَوْ كُنْتَ تُكْثِرُ الصَّلاةَ، فَانْطَلَقُوا بِى حَتَّى وَقَفُوا بِى عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا هِى مَطْوِيَّةٌ كَطَى الْبِئْرِ، لَهُ قُرُونٌ كَقَرْنِ الْبِئْرِ، بَيْنَ كُلِّ قَرْنَيْنِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَأَرَى فِيهَا رِجَالا مُعَلَّقِينَ بِالسَّلاسِلِ، رُءُوسُهُمْ أَسْفَلَهُمْ، عَرَفْتُ فِيهَا رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ، فَانْصَرَفُوا بِى عَنْ ذَاتِ الْيَمِينِ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عَبْدَاللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ، لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ). فَقَالَ نَافِعٌ: فَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ الصَّلاةَ. وترجم له باب الأخذ على اليمين فى النوم، وقال فيه: (وقلت: اللهم إن كان لى عندك خير فأنرى منامًا يعبر لى رسول الله، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل). قال المهلب: هذا الحديث مما فسرت فيه الرؤيا على وجهها، وفيه دليل على توعد الله عباده وجواز تعذيبهم على ترك السنن. وقول الملك: (لم ترع، نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة بالليل) هذه الزيادة تفسر سائر طرق هذا الحديث. وفيه: الحكم بالدليل؛ عبد الله استدل على أن اللذين أتياه ملكان؛ لأنهما أوقفاه على جهنم ووعظاه بها، والشيطان لايعظ ولايذكر بالخير، فاستدل بوعظهما وتذكيرهما أنهما ملكان. وقوله: (لم ترع) هذا خرج على ماراه، وعلى أنه ليس من أهل مارآه لأنه إذا قام الدليل أنهما ملكان فلا يكون كلامهما إلا حقًا. وفيه: دليل على أن مافسر فى النوم فهو تفسير فى اليقظة؛ لأن النبى عليه السلام لم يزد فى تفسيرها على ما فسرها الملك. وفيه: دليل على أن أصل التعبير من قبل الأنبياء؛ ولذلك كانوا يتمنون أن يروا رؤيا فيفسرها النبى لتكون عندهم أصلا، وهو مذهب الأشعرى أن أصل التعبير بالتوقيف من قبل الأنبياء وعلى ألسنتهم، وهو كما قال، لكن المحظوظ على الأنبياء وإن كان أصلا فلا يعم اشخاص الرؤيا، فلا بد للبارع فى هذا العلم أن يستدل بحسن نظره فيرد مالم ينص عليه إلى حكم التمثيل، ويحكم له بحكم الشبيه الصحيح فيجعل أصلا يقاس عليه كما يفعل فى فروع الفقه. وقد تقدم فى باب فضل قيام الليل فى آخر كتاب الصلاة شىء من معنى هذا الحديث.
- فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ أَنَّهُ وُضِعَ فِى يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقِطَعْتُهُمَا وَكَرِهْتُهُمَا، فَأُذِنَ لِى فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا: كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ). قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: أَحَدُهُمَا الْعَنْسِى الَّذِى قَتَلَهُ فَيْرُوزٌ بِالْيَمَنِ، وَالآخَرُ مُسَيْلِمَةُ. قال المهلب: هذه الرؤيا ليست على وجهها، وإنما هى على ضرب المثل، وإنما أولهما النبى بالكذابين؛ لأن الكذب إنما هو الإخبارعن الشىء بخلاف ما هو به ووضعه فى غير موضوعه، فلما رآهما فى ذراعيه وليسا موضعًا للسوارين؛ لأنهما ليسا من حلية الرجال علم أنه سيقضى على يدى النبى- يعنى على أوامره ونواهيه- من يدعى ما ليس له، كما وضعا حيث ليس لهما، وكونهما من ذهب، والذهب منهى عنه فى الدين دليل على الكذب من وجوه: أحدها: وضع الشىء غير موضوعه. والثانى: كون الذهب مستعملاً فى الرجال وهو منهى عنه والذهب مشتق منه الذهاب، فعلم أنه شيء يذهب عنه ولايبقى، ثم وكد له الأمر فأذن له فى نفخهما فطارًا عباره أنهما لايثبت لهما أمر، وأن كلامه عليه السلام بالوحي الذى جاءه به يزيلهما الذي قاما فيه، والنفخ دليل على الكلام. وقال الكرمانى: من رأى أنه يطير بين السما والأرض أو من مكان إلى مكان فإن كانت من الأضغاث فإنه كثير التمنى والفكر والاغترار بالأمانى، وإن كانت رؤيا صحيحة وكان يطير فى عرض السما فإنه يسافر سفرًا بعيدًا وينال رفعة (بقدر ما استقل من الأرض فى طيرانه، فإن طار إلى السماء مستويا لا يتعرج ناله ضر، فإن وصل إلى السماء بلغ الغاية فى ضره، فإن غاب فيها ولم يرجع مات، وإن رجع إلى الأرض أفاق). وقال ابن أبى طالب العابر: وإن كان ذلك بجناح فقد يكون جناحه مالا ينهض به أو سلطانًا يسافر تحت كنفه، فإن كان بغير جناح دل على التغرير فيما يدخل فيه. وقوله: (سواران) والأكثر عند أهل اللغة سوار بغير الف، قال أبو عبيدة: سوار المرأة وسوارها. قال أبو على الفارسى: وحكى قطرب إسوار، وذكر أن اساور جمع إسوار على حذف الياء؛ لأن جمع إسوار أساوير.
- فيه: أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ أَنِّى أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِى إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ، أَوْ هَجَرٌ، فَإِذَا هِى الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا، وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِى آتَانَا اللَّهُ بِهِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ). قال المهلب: هذه الرؤيا فيها نوعان من التأويل فيها الرؤيا على حسب مارئيت وهو قوله: (أهاجر إلى أرض بها نخل وكذلك هاجر فخرج على ما رأى، وفيها ضرب المثل؛ لأنه رأى بقرًا تنحر، فكانت البقر أصحابه، فعبر عليه السلام عن حال الحرب بالبقر من أجل مالها من السلاح والقرون شبهت بالرماح، ولما كان من طبع البقر المناطحة والدفاع عن أنفسها بقرونها كما يفعل رجال الحرب، وشبه عليه السلام النحر بالقتل). وقوله: (والله خير) يعنى ماعند الله من ثواب القتل فى سبيل الله خير للمقتول من الدنيا. وقيل: معى: (والله خير) إن صنع الله خير لهم وهو قتلهم يوم أحد، وقد تدل البقر على أهل البادية لعمارتهم الأرض، وعيشهم من نباتها، وقد يدل الثور الواحد على التأثر؛ لأنه يثير الأرض عن حالها، فكذلك الثأر أيضًا يثير الناحية التى يقوم فيها ويحرك أهلها ويقلب اسفلها أعلاها. قال ابن أبى طالب: والبقر إذا دخلت المدينة فإن كانت سمانًا فهى سنى رخاء، وإن كانت عجافًا كانت شدادًا وإن كانت المدينة مدينة بحر وإبان السفر قدمت سفن على عددها وحالها إلا كانت فتن مترادفة كأنها وجوه البقر كما فى الخبر: (يشبه بعضها بعضًا وفى خير آخر فى الفت) كأنها صياصى البقر (يريد لتشابهها بعضًا) صفرًا كلها فإنها أمراض تدخل على الناس، وإن كانت مختلفة الألوان شنيعة القرون أو كان الناس ينفرون منها، أو كان النار والدخان يخرج من أفواهها فإنه عسكر أو غارة أو عدو يضرب عليهم فينزل بساحتهم، وقد يدل البقر على الوةجة والخادم والأرض والغلة والسنة؛ لمايكون فيها من الولد والغلة والنبات. وقوله: (وهلى) يعنى وهمى، عن صاحب العين.
- فيه: هَمَّام، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ)، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ؛ إِذْ أُوتِيتُ خَزَائِنَ الأرْضِ، فَوُضِعَ فِى يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا عَلَىَّ، وَأَهَمَّانِى، فَأُوحِىَ إِلَىَّ أَنِ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا: الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا: صَاحِبَ صَنْعَاءَ، وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ). النفخ فى المنام إزالة الشىء المنفوخ فيه، وإهاب له بغير تكلف شديد لسهولة النفخ على النافخ، والنفخ دليل على الكلام، وكذلك أهلك الله الكذابين صاحب صنعاء واليمامة بكلامه عليه السلام وأمر بقتليهما، وقد تقدم هذا المعنى فى باب إذا طار الشىء فى المنام. وأما قول همام: هذا ماحدثنا به أبو هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون) وأتى بحديث السوارين، فمعنى ذلك- والله أعلم- أن همامًا روى عن أبى هريرة أحاديث ليست بالكثيرة تعرف بقطعة همام وفى أولها: (نحن الآخرون السابقون) فأراد أن يذكر ذلك فى مواضع من هذا المصنف وقد نبهنا على هذا المعنى فى باب لايبول فى الماء الدائم، فى كتاب الوضوء.
- فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (رَأَيْتُ كَأَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ، خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ، وَهِى الْجُحْفَةُ، فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَيْهَا). وترجم له: باب المرأة السوداء، وباب المرأة الثائرة الرأس. قال المهلب: هذه الرؤيا ليست على وجهها، وهى مما ضرب بها المثل فبعض المعبرين يجهل وجه التمثيل فى ذلك فتأول النبى عليه السلام خروجها مشخصة ماجمع اسمها، وقد اختلف فى معنى إسكانها الجحفة، فقيل: لعدوان أهلها وأذاهم للناس. وقيل: لأن الجحفة قليلة البشر. فكأنه رأى أن يعافى منها الكثير مع بلية القليل. وأما ثوران راسها فتأول منه أنها لما كانت الحمى مثيرة للبدن بالاقشعرار وارتفاع الشعر عبر عن حالها فى النوم باتفاح شعر رأسها، فكأنه قيل له: الداء الذى يسوء ويثير الشعر يخرج من المدينة. وقيل: إن معنى الاقشعرار: الاستيحاش، فكذلك هذا الداء تستوحش النفوس منه. وقال على بن أبى طالب العابر: أى شىء دلت عليه السوداء فى أكثر وجوهها فهو مكروه، فربما دلت على الدنيا الحرام والزوجة الحرام، فمن وطئها فى المنام دخل فيما لايليق به، فإما طعامًا حرامًا يأكله أو شرابًا يشربه أو ثوبًا على ذلك النعت يلبسه أو دارًا مغصوبة يسكن فيها. قال صاحب العين: الكور: الرحل والجمع أكوار وكيران.
- فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (رَأَيْتُ فِى رُؤْيَاى أَنِّى هَزَزْتُ سَيْفًا، فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى، فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ). قال المهلب: هذه الرؤيا على ضرب المثل وغير الوجه المرئى والسيف ليس هو أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم لكنهم لما كانوا ممن يصول بهم النبى عليه السلام كما يصول بالسيف ويغنون عنه غنى السيف عبر عنهم بالسيف، وللسيف وجوه، فمن تقلده فى المنام فإنه ينال سلطانًا أو ولاية، أو إمامة أو وديعة يعطاها أو زوجة ينكحها إن كان عزبًا أو تلد زوجته غلامًا إن كانت حاملاً، فإن سله من غمدة وتكسر الغمد وسلم السيف فإن امرأته تموت وينجو ولده، فإن تكسر السيف وسلم الغمد هلك الولد وسلمت الأم، وربما يكون السيف أباه أو عمه أو أهاه يموت، فإن انكسرت النعلة ماتت أمه أو خالته أو نظيرهما و القائم أبدًا فى اآباء والنعلة فى الأمهات، فإن رآه بيده وتهيأ ليلقى به عدوًا أو يضرب به شخصًا، فسيفه لسانه يجرده فى خصومه أو منازعه، فإن لم تكن له نية وكان بذلك فى مسجد أو كان الناس يتوضئون من عنده، أو رأى شيئًا فى لحيته فإنه يقوم مقامًا بحجة ويبدى لسانه بالنصيحة والعلم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وربما يكون السيف سلطانًا جائرًا.
- فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَفْعَلَ، وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ، وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ- أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ- صُبَّ فِى أُذُنِهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا وَلَيْسَ بِنَافِخٍ). عن أبى هريرة قوله: (من كذب فى رؤياه)، (ومن صور صورة، ومن تحلم واستمع) وروى عن ابن عباس مثله. - وفيه: ابْن عُمَرَ: قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِى عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ). قال محمد بن جرير: إن قال قائل: ماوجه خصوص النبى عليه السلام الكاذب فى رؤياه بما خصه به من تكليف العقد بين طرفى شعرتين يوم القيامة، وهل الكاذب فى رؤياه إلا كالكاذب فى اليقظة، وقد يكون الكذب فى اليقظة أعظم فى الجرم إذا كان شهادة توجب على المشهود عليه بها حدًا أو قتلاً أو مالاً يؤخذ منه، وليس ذلك فى كذبه فى منامه؛ لأن ضرر ذلك عليه فى منامه وحده دون غيره. قيل له: اختلفت حالتهما فى كذبهما، فكان الكاذب على عينيه فى منامه أحق بأعظم النكالين وذلك لتظاهر الأخبار عن النبى عليه السلام أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، والنبوة لاتكون إلا وحيًا من الله، فكان معلومًا بذلك أن الكاذب فى نومه كاذب على الله أنه اراه مالم ير، والكاذب على الله أعظم فرية وأولى بعظيم العقوبة من الكاذب على نفسه، بما أتلف به حقًا لغيره أو أوجبه عليه، وبذلك نطق محكم التنزيل فقال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم لعنة الله على الظالمين). فابان ذلك صحة ماقلناه أن الكذب فى الرؤيا ليس كالكذب فى اليقظة؛ لأن أحداهما كذب على الله والآخر كذب على المخلوقين. قال المهلب فى قوله: كلف أن يعقد بين شعرتين حجة للأشعرية فى تجويزهم تكليف مالا يطاق، وفى كتاب الله مايزيد ذلك بيانًا وهو قوله تعالى: {يوم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون (ولله أن يفعل فى عباده ماشاء لايسأل عما يفعل وهم يسألون. ومنع من ذلك الفقهاء والمعتزلة واحتجوا بقوله تعالى: {لايكلف الله نفسًا إلا وسعها). وقالوا: قوله تعالى: {يوم يدعون إلى السجود} وتكليفه عليه السلام العقد بين شعرتين وما أشبهه من أحكام الآخرة وليست الآخرة دار تكليف، وإنما هى دار مجازاة فلا حجة لهم فى ذلك؛ لأن الله تعالى قد أخبر فى كتابه بأنه لايكلف نفسًا من العبادات فى الدنيا إلا وسعها، ولو كلفهم ما لايقدرون عليه فى الدنيا لكان فى ذلك كون خبره الصادق على خلاف إخبار الله تعالى، وعلى هذا التأويل لاتضاد الآيات. وقال الطبرى: إن سأل سائل عن معنى قوله: (من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون..) الحديث. فقال: أرأيت إن استمع إلى حديث قوم لا ضرر على المحدثين فى استماعه إليهم، وللمستع فيه نفع عظيم إما فى دينه أو دنياه، أيجوز استماعه إليه وإن كره ذلك المتحدثون؟ قيل: المستمع لا يعلم هل له فيه نفع إلا بعد استماعه إليه، وبعد دخوله فيما كره له رسول الله عليه السلام فغير جائز له اسماع حديثهم، وإن كان ضرر عليهم فيه؛ لنهى النبى عليه السلام عن الاستماع إلى حديثهم نهيًا عامًا، فلا يجوز لأحد من الناس أن يستمع إلى حديث قوم يكرهون استماعه، فإن فعل ذلك فأمره إلى خالفه إن شاء غفر له وإن شاء عذبه. فإن قيل: أفرأيت من استمع إلى حديثهم وهو لايعلم هل يكرهون ذلك، هل هو داخل فيمن يصب فى أذنيه الآنك يوم القيامة؟ قيل: إن الخبر إنما ورد بالوعيد لمستمع ذلك وأهله له كارهون، فأما من لم يعلم كراهتهم لذلك فالصواب ألا يستمع حديثهم ألا بإذنهم له في ذلك؛ للخبر الذي روى عن النبى صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن الدخول بين المتناجيين) فى كراهية ذلك إلا بإذنهم. والآنك: الرصاص المذاب. وقولهم: أفرى الفرى يعنى: أكذب الكذب، والفرية: الكذبة العظيمة التى يتعجب منها. وجمعهافرى مقصور مثل لحية ولحى، وقد تقدم القول فى التصوير فى كتاب الزينة.
- فيه: أَبُو سَلَمَةَ، لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِى حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ، يَقُولُ: وَأَنَا كُنْتُ لأرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِى حَتَّى سَمِعْتُ النَّبِى صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ، فَلا يُحَدِّثْ بِهِ إِلا مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفِلْ ثَلاثًا، وَلا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ). - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّهَا مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فَإِنَّمَا هِى مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلا يَذْكُرْهَا لأحَدٍ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ). قال المؤلف: جاء فى حديث أبى قتادة فى الأبواب المتقدمة أن التفل ثلاثًا إنما يكون عن شماله، فمرة جاء (فليبصق عن يساره) ومرة جاء (فلينفث عن شماله)، وفى هذا الباب (فليتفل) والمعنى فيه تقارب، وإنما أمر الله عليه السلام- والله أعلم- إذا رأى ما يحب إلا يحدث بها إلا من يحب؛ لأن المحب لايسوءه مايسر به صديقه، بل هو مسرور بما سره وغير حريص أن يتأول الرؤيا الحسنة شر التأويل، ولو أخبر بها من لايحبه لم يأمن أن يتأولها شر التأويل، فربما وافق ذلك وجهًا من الحق فى تأويلها فتخرج كذلك لقوله عليه السلام: (الرؤيا لأول عابر) وأما إذا رأى ما يكره فقد أمره عليه السلام بمداة مايخاف من ضرها وتلافيه بالتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، ويتفل ثلاثًا عن يساره، ولايحدث بها فإنها لن تضره. فإن قال قائل: قد تقدم من قولك قد يكون من ضروب الرؤيا منذرة ومنبهة للمرء على الاستعداد للبلاء قبل وقوعه رفقًا من الله لعباده لئلا يقع وعلى غرة فيقتل، وإذا وقع على مقدمة وتوطين كان أقوى للنفس وابعد لها من أذى البغتة، وقد سبق في علم الله إذا كانت الرؤيا الصحيحة من قبل الله محزنة أن تضر من رآها، فما وجه الحكمة فى كتمانها؟. قال المهلب: فالجواب أنه إذا أخبر بالرؤيا المكروهة لم يأمن أن تفسر له بالمكروه فيستعجل الهم، ويتعذب بها ويترقب وقوع المكروه به، فيسوء حاله، ويغلب عليه اليأس من الخلاص من شرها، ويجعل ذلك نصب عينيه، وقد كان داود النبى عليه السلام من هذا البلاء الذى كان عجلة لنفسه بما أمره به من كتمانها والتعوذ بالله من شرها، وإذا لم تفسر له بالمكروه بقى بين الطمع والرجاء المجبولة عليه النفس أنها لاتجزع إما لأنها من قبل الشيطان أو أن لها تأويلا آخر على المحبوب، فأراد الرؤيا قد يبطؤ خروجها وعلى أن أكثر مايراه الإنسان مما يكرهه فهو من قبل الشيطان، ولو أخبر بذلك كله لم ينفك دهره دائما من الاهتمام بما لايؤذيه أكثره، وهذه حمة بالغة واحتياط على المؤمنين، فيجزى الله نبينا عنا خيرًا وصلى الله عليه وسلم. قال الطبرى: ووجه أمره عليه السلام بالنفث عن الشمال ثلاثًا- والله أعلم- إخساء للشيطان كما يتفل اإنسان عند الشىء القذر يراه أو يذكره، ولاشىء أقذر من الشيطان فأمره عليه السلام بالتفل عند ذكره، وأما خصوصه بذلك الشمال دون اليمين فلأن تأتى الشرور كلها عند العرب من قبل الشمال، ولذلك سمتها الشؤمى ولذلك كانوا يتشاءمون بماجاء من قبلها من طائر وحشى أخذ إلى ناحية اليمين فسمى ذلك بعضهم بارحًا وكانوا يتطيرون منه، وسماه بعضهم سانحًا، وأنه ليس فيه كثير اعتمال من بطش وأخذ وإعطاء، وأكل وشرب وأصل طريق الشيطان إلى ابن آدم لدعائه إلى مايكرهه الله من قبلها.
- فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (إِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِى الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ، فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا، فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ، وَإِذَا سَبَبٌ وَاصِلٌ مِنَ الأرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ، فَعَلَوْتَ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَانْقَطَعَ ثُمَّ وُصِلَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِى أَنْتَ وَاللَّهِ، لَتَدَعَنِّى فَأَعْبُرَهَا، فَقَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: اعْبُرْهَا، قَالَ: أَمَّا الظُّلَّةُ فَالإسْلامُ، وَأَمَّا الَّذِى يَنْطُفُ مِنَ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ فَالْقُرْآنُ، حَلاوَتُهُ تَنْطُفُ، فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ، وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ فَالْحَقُّ الَّذِى أَنْتَ عَلَيْهِ، تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللَّهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ، رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ، رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُهُ رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ ثُمَّ يُوَصَّلُ لَهُ، فَيَعْلُو بِهِ، فَأَخْبِرْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِى أَنْتَ أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟ قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم: أَصَبْتَ بَعْضًا، وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا، قَالَ: فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَتُحَدِّثَنِّى بِالَّذِى أَخْطَأْتُ، قَالَ: لا تُقْسِمْ). قال المهلب: إنما عبر بالظله عن الإسلام؛ لأن الظله نعمة من نعم الله عن أهل الجنة، وكذلك كانت على بنى إسرائيل، وكذلك كانت تظل النبى عليه السلام أينما مشى قبل نوته، فكذلك الإسلام يقي ويقي الأذى وينعم المؤمن فى الدنيا والآخرة، وأما العسل، فإن الله تعالى جعله شفاء للناس وقال فى القرآن: (شفاء لما فى الصدور) وهو ابدًا حلو على الأسماع كحلاوة العسل على المذاق، وكذلك جاء فى الحديث أن فى السمن شفاء من كل داء. والسبب: هو الحبل والعهد والميثاق، قال تعالى: {أينما ثقفوا إلا بحبل من الله) أى: بعهده وميثاق، والرجل الذى يأخذ الحبل بعد النبى صلى الله عليه وسلم: أبو بكر الصديق يقوم بالحق فى أمته بعده، ثم يقوم بالحق بعده عمر، ثم يقوم بالحق بعده عثمان، وهو الذى انقطع به. قال المهلب: موضع الخطأ الذى قال له النبى صلى الله عليه وسلم: (وأخطأت بعضًا) فى قوله: (ثم وصل له) إنما الخطأ فى قوله: له، لأن فى الحديث: (ثم وصل) ولم يذكر له فالوصل إنما يكون لغيره، وكان ينبغى لأبى بكر أن يقف حيث وقفت الرؤيا، ويقول: ثم يوصل على نص الرؤيا، ولايذكر الموصول له، ومعنى كتمان النبى موضع الخطأ؛ لئلا يحزن الناس بالعارض لعثمان، فهو الرابع الذى انقطع له ثم وصل، أى وصلت الخلافة لغيره، وفى هذا تفسير للحديث الذى رواه أبو معاوية، عن الأعمش، عن يزيد الرقاشى، عن أنس بن مالك أن النبى عليه السلام قال: (الرؤيا لأول عابر). وقال أبو عبيد وغيره من العلماء: تأويل قوله: (الرؤيا لأول عابر) إذا أصاب الأول وجه العبارة وإلا فهى لمن أصابها بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب فيما يرى النائم ليوصل بذلك إلى مراد الله بما ضربه من الأمثال فى المنام، فإذا اجتهد العابر وأصاب الصواب فى معرفة المراد بما ضربه الله فى المنام فلا تفسير إلا تفسيره ولاينبغي أن يسال عنها غيره، إلا أن يكون الأول قد قصر به تاويله فخالف اصول التأويل، فاللعابر الثانى أن يبين ماجهله ويخبر بما عنده كما فعل النبى عليه السلام بالصديق فقال: (أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا) ولو كانت الرؤيا لأول عابر سواء أصاب أو أخطأ ماقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (وأخطأت بعضًا) وقال الكرمانى: لا تغير الرؤيا عن وجهها التى رئيت له عبارة عابر ولاغيره، وكيف يستطيع مخلوق أن يغير ماجاءت نسخته من أم الكتاب، غير أن الذى يستحب لمن لم يتدرب فى علم التأويل ولااتسع فى التعبير الا يتعرض لما قد سبق إليه من لايشك فى إمامته ودينه، وله من التجربة فوق تجربته. قال ابن قتية: وليس ينبغى أن يسأل صاحب الرؤيا عن رؤياه إلا عالمًا ناصحا أمينا كما جاء فى الخبر عن النبى صلى الله عليه وسلم: (لا تقصص رؤياك إلا على عالم أو ناصح أوذى رأى من أهلك، فإنه سوف يقول خيرًا) وليس معنى ذلك أن الرؤيا التى يقول عليها خيرًا كانت دلالة على المكروه والشر، فقد قيل لمالك: أتعبر الرؤيا على الخير وهى عنده على الشر لوقل من قال: أنها على ماأولت؟ فقال: معاذ الله، والرؤيا من أجزاء النبوة فيتلاعب بالنبوة؟ ولكن الخير الذى يرجى من العالم والناصح هو التأويل بالحق أو يدعو له بالخير ودفع الشر، فيقول خيرًا لك وشرًا لعدوك إذا جهل التأويل. قال المهلب: وفيه أن للعالم أن يسكت عن تعبير بعض الرؤيا إذا خشى منها فتنة على الناس غمًا شاملاً، فأما إن كان الغم يخص واحدًا من الناس، واستفسر العابر عنه فلا بأس أن يخبر بالعبارة ليعد الصبر ويكون على أهبته من نزول الحادثة لئلا تفجأة فتفزعه، وقد فسر أبو بكر الصديق رضى الله عنه للمرأة التى رأت جائز بيتها انكسر، فقال: (يموت زوجك وتلدين غلامًا) لماخصها من الحزن وسالت عن التفسير. وفيه: تخصيص معنى أمره عليه السلام بإبرار القسم؛ لأن أبا بكر قد أقسم على النبى عليه السلام ليخبره بموضع الخطأ، فلم يبر قسمه فعلم أن إبرار القسم إنما يجوز إذا لم يكن فى ذلك ضرر على المسلمين، وكذلك إذا أقسم على ما لا يجوز أن يقسم عليه لم ينبغ أن يبر قسمه، الا ترى أن رجلا لو أقسم على أخيه ليشربن بالخمر، أو لعصين الله، لكان فرضًا عليه أن لا يبر قسمه. وفيه: أنه لا بأس للتلميذ أن يقسم على استاذه أن يدعه يفتى فى المسألة؛ لأن هذا القسم إنما هو بمعنى الرغبة والتدرب. وفيه: جواز فتوى المفضول بحضرة الفاضل إذا كان مشارًا إليه بالعلم والأمانة. والظلة: سبحانه لها ظل. وتنطف: تمطر. والسبب: الحبل. وقوله: (يتكففون) قال صاحب العين: تكفف واستكف: إذا بسط كفه ليأخذ.
- فيه: سَمُرَة، كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لأصْحَابِهِ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟ قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: إِنَّهُ أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِى، وَإِنَّهُمَا قَالا لِى: انْطَلِقْ وَإِنِّى انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِى بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ، فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَهَدْهَدُ الْحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ، فَيَأْخُذُهُ فَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ، كَمَا كَانَ ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأولَى، قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالا لِى: انْطَلِقِ، انْطَلِقْ. وذكر الحديث بطوله، إلى قوله: قلت: إِنِّى قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا، فَمَا هَذَا الَّذِى رَأَيْتُ، قَالَ: قَالا لِى: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ، أَمَّا الرَّجُلُ الأوَّلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ، فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ، وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِى مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِى، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِى النَّهَرِ، وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا، وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ الَّذِى عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا، فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِى فِى الرَّوْضَةِ، فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، قَالَ: فَقَالَ: بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَوْلادُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَأَوْلادُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنًا وَشَطْرٌ قَبِيح، فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ). قال المهلب: أما معنى الترجمة في سؤاله عليه السلام عن الرؤيا عند صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات لحفظ صاحبها لها وقرب عهده لها، وأن النسيان قلما يعترض عليه فيها ولجام ذهن العابر وقله ابتدائه بالفكره فى أخبار معاشه ومداخلته للناس فى شعب دنياهم، وليعرف الناس مايعرض لهم فى نومهم ذلك، فيستبشرون بالخير ويحذرون موارد الشر، ويتأهبون لورود الأسباب الماوية عليهم، فربما كانت الرؤيا تحذيرًا عن معصية لاتقع إن جهدت، وربما كانت إنذارًا لما لابد من وقوعه، لا تقع إن جهدت، وربما كانت البشرى الخير سببًا لسماعها إلى الازدياد منه وقويت فيه نبيته وانشرحت له نفسه وتسبب إليه، وفى هذا الحديث حجة لمن قال إن أطفال المشركين فى الجنة كأطفال المسلمين، وقد تقدم فى الجنائز. وقوله: (يثلغ رأسه) يعنى: يشدخه، والمثلغ من الرطب والتمر: ماأسقطه المطر، الدهدهة: فنزول الشىء دهده من أعلاه إلى أسفل، والكلوب، والكلاب لغتان وقد تقدم تفسير الكلول والدهدهة فى الجنائز بزيادة على ما فى هذا الباب. وشرشر: قطع. من كتاب العين. والضوضاء: الصوت والجلبة، وقد ضوضا الناس. وفغرفاه يفغر، إذا فتحه. وقوله: يحشها، قال صاحب العين: حششت النار حشًا: أوقدتها وجمعت الحطب إليها، وكل ما قوى بشىء فقد حش به. ومغن إذا كثر شجرة ودغله. ولايعرف الأصمعى إلا أغن وحده. وقال صاحب العين: روضة غناء: كثيرة العشب والذباب، وقرية غناء: كثيرة الأهل، وواد أغن. وقوله: (كأن ماءه المحض فى البياض)، قال صاحب العين المحض: اللبن بلا رغوه، وكل شىء خالص فهو محض، وقال: الرباب: السحاب واحدتها ربابة.
|